شفيقة ومتولي.. ملحمة شعبية أخرجها علي بدرخان وأنتجها يوسف شاهين
محمد عدليدائما ما أقول أن السير الشعبية ملك لكل المبدعين، كذلك الحكايات الواقعية المنتشرة، من حق أي مؤلق أو مخرج أن يراها من الزاوية الأقرب لوجهة نظره، لكن الفرق الجوهري يكمن في المعالجة الدرامية، فهناك من يقدم السرة الشعبية أو الحكاية الواقعية على شكل لقطات تسجيلية تميل للتوثيق أكثر من الدراما، ومنها من يستطيع أن ينقل الحكاية بلحمها ودمها للشاشة، هذا ما فعله المخرج علي بدرخان والمؤلف شوقي عبد الحكيم وصلاح جاهين في فيلم "شفيقة ومتولي".
بداية شهرة حكاية شفيقة ومتولي كانت على يد المطرب الشعبي "أحمد حسن" في بداية الخمسينات، بعد أن قدمها في صورة الموال وتم بثها عبر الإذاعات وقته وكان جزء منها يقول في تجسيده لشجار بين متولي وأحد زملائه " “قاله: إزاي بتضربنى يا جبان! وح ادفن نفسك جوه جبانة أدي صورت أختك جوه جيبي أنا”، القصة الحقيقية لشابّ من بلدة جرجا في محافظة سوهاج، تمّ تجنيده في الجيش في أوائل القرن العشرين ليكتشف بعد عامين غيابه أنّ شقيقته شفيقة أصبحت تعمل في ممارسة الرذيلة ونالت شهرة واسعة، قرر متولي أخذ أجازة وبحث عن شقيقته ووجدها في أسيوط، تلك هي القصة الحقيقية ليقدمها صناعها في السينما بشكل درامي إنساني يجعلك تتعاطف مع القاتل والمقتولة، ترى الشاب الغيور على عرضه، وترى الفتاة التي أغراها نجل شيخ البلد وبعد ان انتشرت سيرة علاقتهما المحرمة تهجر بلدها ويعجب بها أحمد الطرابيشي/أحمد مظهر مورد العبيد لشركة قناة السويس لتصبح عشيقته وتتنقل من هذا لهذا حتى تصل لأفندينا/جميل راتب وتكتشف شذوذه ، شخصية مثل شفيقة كانت مستفزة وغنية بالتفاصيل لكل صناع العمل بداية من الكاتب ثم المخرج وحتى سعاد حسني التي قدمتها ببراعة.
يبدأ الفيلم بموسيقى متوترة تنبأ من يسمعها بإن هناك حدث عظيم، بالإضافة لصوت وأشعار صلاح جاهين تعليقا على المشاهد والأحداث لتجد نفسك بداخل الحكاية الشعبية وليس مجرد مشاهد، يبدأ الفيلم بهرولة شفيقة على أخيها متولي تخبره بإنهم يجمعون الشباب للجيش وتطلب منه الهرب، وكان متعارف عليه في هذه الفترة أن من يذهب للجيش لا يعود مرة أخرى لدرجة أن هناك من كان يقطع أصابعه أو يصيب نفسه بعاهة مستديمة لكي لا يذهب للتجنيد ، وبعد قراءة جيدة عن تلك الفترة من بينها مذكرات الإمام محمد عبده تجد أن الفيلم صورها بشكل بشكل واقعي جدا، وعرض أساليب الاحتلال وممارسته الظالمة على المصريين.
بعد ذهاب متولي للجيش تحاول شفيق أن تكسب رزقها بطريقة شرعية، لم يكن الانحراف هو سبيلها الاول، ولكن مع ضيق الأحوال وإغواء القوادة " هنادي/ ملك الجمل" لها تبدأ في طريقها المحرم، حاول صناع العمل كسب ود المشاهد لشخصية شفيقة وإنها رغم أخطائها تعرضت لضغوط قوية، من الناحية الأخرى نشاهد تطور شخصية متولي وكفائته في الجيش وترقيته وهو ما يجعل المشاهد مرتبط بالشخصية أكثر.
رغم بساطة الحبكة، حبكة الانتقام وعدم وجود أية التواءات في تقديمها إلا أن تقديمها على طريقة " صندوق الدنيا" من وجود حكاء/صلاح جاهين، حول الفيلم إلى حدوتة مهما تم حكايتها لا نمل منها وتجدد نفسها بنفسها.
اعتبر المخرج علي بدرخان واحد من أهم مخرجين مصر،ومعظم أعماله رغم قلتها متنوعة ومختلفة، معظم كادرات فيلم شفيقة ومتولي تشعر وكأن الكاميرا تراقب حركة القرية، تتخفى لترى من حولها على حقيقتهم التي تكشفها وتفضحها، كان ذلك واضحا جدا في مشاهد شفيقة الأولى ودخولها البيت المشبوه ومشاهدها مع عشيقها الطرابيشي منذ أن رآها، ومن أهم مشاهد الفيلم مشهد تنبؤ شفيقة بنهايتها على يد أخيها ي الوقت التي تعاشر فيه أحد زبائنها الذي ينتهي ويلقي لها القليل من الأول وينصرف عنها، وتصوير أغنية " بانو بانو" التي عاشت حتة الآن بين مختلف الأجيال، ومشاهد تحول شفيقة من مجرد " مومس " عادية لعشيقة شخصية هامة في تلك البلدة، ومشهد اكتشفاها شذوذ أفندينا/جميل راتب، وبالطبع مشهد النهاية ، ركضت شفيقة ناحية أخيها في شوق رغم علمها بنهايتها على يده، يشهر سلاحه لكنها تتقدمه ناحيته أيضا كأنها ترغب في الخلاص واعتراف ضمني منها بذنبها وعلمها جيدا بنتيجته، يحاول متولي أن يهرب بعينيه من ملاقاه عين شقيقته التي يحبها كثيرا لكنه اخذ قرار تبييض عرضه بعد تدنيسه على يديها، يحاول أن يهرب من نظراتها حتى لا يضعف، لتسبقه طلاقات من خلفه تنهي حياتها فيغلبه حبه لها ويحمل جثتها وهو يبكي عليها وصوت صلاح جاهين يقول " شالها في أحضانها ودموعه تجري كنهر النيل وفيضانه يبكي عليها وعليه وعلى بنات الناس اللي تبيع عرضها في القحط وزمانه".
الحديث عن سعاد حسني يحتاج سلسلة مقالات، تلك الفتاة الرقيقة التي جسدت أدوار خفيفة ثم انتقلت وتطورت وطورت من أدواتها لتقدم لنا أدوار كلاسيكية كبيرة منها فيلم " بئر الحرمان و أين عقلي والجوع وشفيقة ومتولي"، قدمت شخصية شفيقة بشكل رائع، السيدة التي تقدم المتعة بمنتهى الأسى والحزن، تغني وهي تبكي على حالها، تعيش وهي تعلم نهايتها، انفعالاتها ونظراتها في شخصية شفيقة زادت من عمق الشخصية كثيرا، دور احمد زكي في متولي كان مقبولا جدا لكن مساحته لم تكن بحجم شخصية شفيقة وبالتالي لم يظهر إمكانيته كممثل بشكل كبير، من أروع أدوار الفيلم كان " جميل راتب" الذي كاتب دور الباشا صاحب الأفكار الشاذة بشكل واقعي كان صدمة وقتها للمشاهدين.
من أهم النقاط في فيلم شفيقة ومتولي هي جهة الانتاج، شركة مصر العالمية لصاحبها المخرج الكبير يوسف شاهين، من ضمن مجموعة أفلام اقتنع شاهين بها وقرر تقديمه ولكن ليس كمخرج، قرر أن يقدمه كمنتج ويوفر للعمل كل الامكانيات التي تخرجه بشكل يرضى عنه صناعه، هنا يظهر الفرق بين المنتج الذي يهدف للربح فقط والمنتج الفنان الذي يفصل في الأدوار الذي يقوم بها كما فعل " جو".