فيلم الإرهابي.. السينما في مواجهة الأفكار المتطرفة
محمد عدلي موقع السلطةجودة العمل الفني قد نختلف عليها من حيث أداء الممثلين وقدرة المخرج والكاتب على تقديم حبكة وخطوط درامية مترابطة، لكن هناك بعض الأفلام قدمت لنا رسائلا من الصعب الاختلاف على قيمتها، هذه الجملة هي التي أرددها دائما قبل الحديث عن فيلم "الإرهابي"، الفيلم لم يكن الأفضل من حيث الأداء أو حتى الطرح، لكن شجاعة صناعه في تقديمه في ذلك التوقيت كان رسالة قوية تثبت أن الفن لا يخشى يد الإرهاب الغاشمة، وأن الكاميرا أحيانا تكون أقوى كثيرا من الأسلحة والمفرقعات.
لماذا التوقيت مهم وفارق في تصوير وعرض هذا الفيلم؟ تم عرض فيلم "الإرهابي" عام 1994، وتناول حياة شخص لديه أفكار متطرفة يحاول اغتيال واحد من أهم كتاب الفكر في مصر، وإذا عدنا بالزمن عامين سنجد واقعة اغتيال الكاتب الكبير "فرج فودة" عام 1992 على يد شخص متطرف دينيا، فتلك الفترة تعرضت مصر لموجة إرهاب قوية وسلسلة اغتيالات لأهل الفكر كان آخرهم محاول اغتيال الروائي الكبير نجيب محفوظ، عام 1995، فجاء الفيلم بعدة رسائل شجاعة منها، أصحاب الفكر لا يخشون غشم الإرهاب وظهر ذلك تحديدا في الجملة التي قالها الممثل محمد الدفراوي والذي جسد شخصية الدكتور "فؤاد مسعود" عندما أخرج قلمه وقال "الجاهل بيخاف من العلم، ودا سلاحي"، ثاني تلك الرسائل هو طرح أسلوب "المراجعات الفكرية" وهو أسلوب يستخدم من وقتها كحل بديل للسيطرة على الإرهاب، وظهر ذلك تحديدا في الجملة التي قالها الممثل محمد الدفراوي والذي جسد شخصية الدكتور "فؤاد مسعود" الحل الأمني مش هو الحل الوحيد لازم نناقشهم، وبالطبع توقيت الفيلم ورسائله كان له أثره على أبطاله خصوصا الفنان عادل إمام، الذي صرح أكثر من مرة أنه تعرض للتهديد وأن زوجته رفضت أن يقدم هذا الدور خوفا على حياته من تلك الجماعات.
كتب سيناريو فيلم "الإرهابي" الكاتب الكبير "لينين الرملي"، تدور أحداث الفيلم حول شاب منتمي لجماعة متشددة "علي عبد الظاهر" ينفذ عدة عمليات إرهابية ويتم اختياره لتنفيذ سلسلة من الاغتيالات، وأثناء محاولاته الهرب يتعرض لحادثة سيارة فينتقل للعيش مع أسرة الفتاة التي صدمته وهي أسرية تملك أفكارا مختلفة تماما عن أفكاره وتستمر الأحداث حتى يتغير فكره ولكن بعد فوات الأوان، الرهان الأساسي في الكتابة هو تغيير فكر الشخص المتشدد في حالة وجوده وسط أسرة طبيعية، المراجعة الذاتية للأفكار ومقارنة معتقداته وصورته الذهنية عن المجتمع بالحياة التي يعيشها وسطهم، حتى ينتصر في النهاية الفكر الوسطي، نجح الكاتب في توصيل تلك الفكرة في المجمل، لكن تفصيلا أرى أن السيناريو به عده ثغرات، أولا تقديم الإرهابي على أنه جاهلا قد يكون مقبولا، لكن القائد عادة ما يكون أذكى ويملك حجج قوية لإقناع أتباعه، وعلى العكس جاءت شخصية الزعيم التي قدمها "أحمد راتب"، شخصية سطحية متجهمة لا تملك أي حجج أو قدرات إقناعية، فقط تقدم مغريات تتلخص في الأموال والنساء، وبشكل عام تقديم الإرهابيين في الفيلم كان هزليا كارتونيا غير مقنع لا شكلا ولا مضمونا ، لم يقدم الفيلم مقدمات وأسباب قوية جعلت من هؤلاء الأشخاص إرهابيين.
ثاني مشاكل السيناريو من رأيي هو العائلات التي عرضها الكاتب على إنهم عائلات مصرية طبيعية قادرة على تغيير فكر شخص متطرف إذا سمحت الظروف وأصبح موجودا معهم، عائلة مسلمة وأخرى مسيحية، العائلة المسلمة أعتقد أن الاهتمام بتفاصيل شخصياتها كان ضعيفا، اكتفى الكاتب بعرض وظائفهم وبعض عادتهم واستعراض حب الفتاة الكبرى " سوسن " والتي جسدت شخصيتها " شيرين"، كما اهتم الكاتب بتفاصيل لا تفيد على حساب تفاصيل أخرى، مثلا شرب الابن "محسن" والذي جسد شخصيته "إبراهيم يسري" للخمر، تفصيلة لم أستوعب فائدتها في محاولة دفعنا نحو الهدف من الفيلم "تغيير الفكر لدى شخص متطرف"، بالعكس قد تزيده تلك العادة تمسكا بأفكاره، بخلاف أن في الأسر المصرية الطبيعية وقتها لم يكن منتشرا شرب الخمر في المنازل، أيضا لم استوعب الهدف من تقديم شخصية المسيحية المتشددة " ماجدة "، لم تقدم للأحداث أي تطور، كان من الممكن تقديم أسرة مسيحية مصرية عادية يقترب منها الإرهابي عن قرب ويتعرف على مدى انسانيتهم وحبهم لبلدهم وجيرانهم المسلمين.
رغم أن الخيوط الدرامية في الفيلم رغم عدم إغراقها في التفاصيل التي كانت من الممكن أن تغير شكل الفيلم تماما، إلا أن الرسالة كانت واضحة طوال الفيلم حتى نهايته المنطقية.
استطاع المخرج نادر جلال، نقل الحالة النفسية للإرهابي طوال أحداث الفيلم، بداية من قمة التشدة للاستنكار ثم مقاومة الاقتناع ثم الاقتناع الناقص ومحاولة الهروب ثم الاقتناع بشكل كامل، كلها مراحل نقلها المخرج بمساعدة أداء عادل إمام للمشاهدين بشكل ناجح جدا، أيضا استخدام الكادرات الكلوز بشكل مكثف مع بداية مشاهد عادل إمام وسط الأسرة لإبراز ردود أفعاله على كلامهم وطريقة حياتهم.
من المشاهد التي قدمها نادر جلال بشكل مميز كان مشهد تناول الطعام في وجود الإرهابي و الكاتب "فؤاد مسعود" على مائدة واحدة، حركة الكاميرا ونقلاتها تعطيك إحساسا إنك في مناظره بين تيارين مختلفين، توجيه الجمل الحوارية كأنها إجابات على أسئلة مطروحة على الطرفين، ومن أهم مشاهد الفيلم مواجهة الإرهابي لجماعته بعد تغيير أفكاره ورفضه تنفيذ مهام أخرى، وقوف القائد وأعوانه في مكان أعلى منه وهو يقف وحيدا وأسلوبهم في الحديث معه بشكل آمر يعطي انطباعا عن طريقة التعامل داخل تلك الجماعات وأنهم لا يعتبروا الجميع على منزلة واحدة.
أفضل مشهد في رأيي هو مشهد النهاية، المشهد الذي اجتمعت فيه كل الخيوط، الإرهابي الذي راجع أفكاره وأعضاء جماعته الذي يعاقبونه على خروجه عنهم وقوات الشرطة التي تقتص منه على جرائمه السابقة، والأسرة التي عاش وسطها وكانت سببا في تغييره، والعنصر الأهم هي حبيبته التي مات في أحضانها.
الأداء التمثيلي في المجمل كان جيدا، عادل إمام، نجح في تقديم الاختلافات النفسية للدور بشكل واضح، بداية من إيمان الشخصية الشديد بالأفكار المتطرفة حتى حبه لـ"سوسن" ورغبته في تغيير حياته، الممثلة القديرة مديحة يسري قدمت دور الأم المصرية العطوفة بشكل رائع وكانت من أهم أسباب نجاح الفيلم، كذلك الفنان محمد الدفراوي قدم دور الكاتب الذي لا يخشى الإرهاب بطريقة واقعية من حيث المظهر الخارجي والأداء الصوتي والجسدي، من الأدوار المميزة أيضا رغم صغر مساحتها كان دور الممثلة "حنان شوقي" في دور الأخت الصغرى، رغم صغر حجم الدور إلا أنه كان حلقة الوصل في تحريك وتطور الأحداث ونجحت حنان شوقي في تقديمه جيدا، أقل الأدوار في الفيلم كان من نصيب الممثل " أحمد راتب " الذي قدم الإرهابي بطريقة تفتقد للمصداقية تماما.
الفيلم وإن اختلفنا على مدى جودته الفنية، لكننا نتفق على الرسالة الواضحة التي قدمها، ويمكننا القول أن فيلم " الإرهابي " رسالة صالحة حتى الآن لمواجهة الإرهاب الغاشم الذي يجتاح وطننا العربي.