كلمة بابا الفاتيكان في اليوم العالمي للمهاجرين واللاجئين
كتب أحمد عبدالله موقع السلطةنشرت الصفحة الرسمية لبابا الفاتيكان، رسالة البابا فرنسيس بمناسبة اليوم العالمي السابع بعد المائة للمهاجرين واللاجئين تحت عنوان ”نحو نحن أكثر شموليّة”.
وقال نص الرسالة:
عبَّرْتُ عن قلق ورغبة، ما زالا يحتلّان مكانًا مهمًّا في قلبي: ”إنّ أسوأ موقف، بعد انتهاء الأزمة الصّحّية، هو أن نعود ونسقط في روح استهلاكية محمومة وفي أشكال جديدة من حماية الذات الأنانية. وبالتالي نأمل ألا يكون هناك في النهاية ”آخرون” بعد الآن، إنّما ”نحن” فقط”. لهذا قرّرت أن أخصص هذه الرّسالة لليوم العالمي السابع بعد المائة للمهاجرين واللاجئين لهذا الموضوع: ”نحو نحن أكثر شموليّة”، لكي اشير بذلك إلى أفق واضح لمسيرتنا المشتركة في هذا العالم.
هذا الأفق حاضر في مشروع الله الخالق: ”خَلَقَ اللهُ الإِنسانَ على صُورَتِه على صُورَةِ اللهِ خَلَقَه ذَكَرًا وأُنْثى خَلَقَهم وبارَكَهمُ اللهُ وقالَ لهم: اِنْموا واَكْثُروا”. لقد خلقنا الله ذكورًا وإناثًا، كائناتٍ مختلفةً ومتكاملةً لكي نشكّل معًا ”نحن” يجب أن يصبح أكبر بتكاثر الأجيال. لقد خلقنا الله على صورته، على صورة كيانه الواحد والثالوث، شركة في التنوّع. وبسبب عصيانه ابتعد الإنسان عن الله، أراد الله، برحمته، أن يقدّم طريقًا للمصالحة لا لأفراد، وإنما لشّعب، لـ ”نحن”، يشمل العائلة البشريّة بأسرها، جميع الشعوب: ”هُوَذا مَسكِنُ اللهِ مع النَّاس، فسَيَسكُنُ معهم وهم سيَكونونَ شُعوبَه وهو سيَكونُ اللهُ معَهم”.
إنّ تاريخ الخلاص يرى ”نحن” في البداية و”نحن” في النهاية، وفي المحور سرّ المسيح الذي مات وقام ”لِيَكونوا بِأَجمَعِهم واحِدًا”. ولكن، يبيّن لنا الوقت الحاضر أنّ الـ ”نحن” التي أرادها الله قد تحطّمت، وتشرذمت، وجُرحت، وتشوّهت. ويحدث هذا بشكل خاصّ في لحظات الأزمات الكبرى، كما هو الأمر الآن مع الجائحة. إنَّ القوميّات المنغلقة والعدوانيّة، والفرديّة المتطرّفة تُفَتّت أو تُفرّق الـ ”نحن”، سواء في العالم أو في داخل الكنيسة. والثّمن الأغلى يدفعه الذين يمكنهم أن يصبحوا ”الآخرين” بسهولة: الغرباء والمهاجرون والمهمّشون الذين يعيشون في الضواحي الوجوديّة. في الواقع، نحن جميعًا في القارب عينه، ونحن مدعوّون لأن نلتزم لكي لا يكون هناك المزيد من الجدران التي تفصل بيننا، ولكي لا يكون هناك المزيد من ”الآخرين”، وإنما ”نحن” فقط، نحن كبير بحجم البشريّة جمعاء. لهذا أغتنم فرصة هذا اليوم لكي أُطلق نداء مزدوجًا لكي نسير معًا نحو ”نحن” أكبر أكثر شموليّة، مخاطبًا أوّلًا جميع المؤمنين الكاثوليك، ثمّ جميع الرجال والنساء في العالم.
بالنّسبة لأعضاء الكنيسة الكاثوليكيّة، يُترجم هذا النداء إلى التزام بأن يكونوا أكثر أمانةً لكونهم كاثوليك، ويُحقِّقوا ما أوصى به القدّيس بولس جماعة أفسس: ”هُناكَ جَسَدٌ واحِدٌ ورُوحٌ واحِد، كما أَنَّكم دُعيتُم دَعوَةً رَجاؤُها واحِد. وهُناكَ رَبٌّ واحِدٌ وإِيمانٌ واحِدٌ ومَعْمودِيَّةٌ واحِدة”. في الواقع، إنّ كثلَكةَ الكنيسة (أي طابعها الجامع) وشموليّتها هي حقيقة تتطلّب أن تُقبَل وتُعاش في كلّ عصر، وفقًا لإرادة الرّبّ ونعمته الذي وعدنا بأن يكون معنا على الدوام حتى نهاية العالم. إنَّ روحه القدوس يجعلنا قادرين على معانقة الجميع لكي نُحقق الشّركة في التنوّع، والتناغم بين الاختلافات دون أن نفرض أبدًا توحيدًا يفقد المرء سماته الشخصيّة. في الّلقاء مع تنوّع الغرباء، والمهاجرين، والّلاجئين، وفي الحوار بين الثقافات الذي قد ينشأ عن هذا اللقاء، تُعطى لنا الفرصة لكي ننمو ككنيسة، ولكي نُغنيَ بعضنا البعض بشكل متبادل. في الواقع، كلّ معمّدٍ، أينما وُجِد، هو عضو يتمتّع بكامل الحقوق في الجماعة الكنسيّة المحليّة، هو عضو في الكنيسة الواحدة، ومقيم في البيت الواحد، وعضو في العائلة الواحدة.
يُدعى المؤمنون الكاثوليك إلى الالتزام، كلّ منهم انطلاقًا من الجماعة التي يعيش فيها، لكي تُصبح الكنيسة أكثر إدماجًا، وتُتمِّمَ هكذا الرّسالة التي أوكلها يسوع المسيح إلى الرّسل: ”وأَعلِنوا في الطَّريق أَنْ قَدِ اقتَرَبَ مَلَكوتُ السَّمَوات. اِشْفوا المَرْضى، وأَقيموا المَوتى، وأَبرِئوا البُرْص، واطرُدوا الشَّياطين. أَخَذتُم مَجَّانًا فَمَجَّانًا أَعطوا”. واليوم تُدعى الكنيسة لكي تخرج إلى طرقات الضواحي الوجوديّة، لكي تُداوي الجرحى وتبحث عن الضّالين، دون أحكام مسبقة أو خوف، ودون اقتناص، ولكي تكون مستعدّة لكي توسِّع خيمتها لكي تستقبل الجميع. سنجد بين سكّان الضّواحي العديد من المهاجرين، واللاجئين، والمشرّدين وضحايا الاتجار بالبشر، الذين يريد الرّبّ أن يظهَر حبّه لهم ويُعلَنَ لهم خلاصه. إنَّ تدفُّق المهاجرين في عصرنا يشكّل الحدود الجديدة للرسالة، وهو فرصة مميّزة لإعلان يسوع المسيح وإنجيله دون الابتعاد عن بيئتنا الخاصّة، وللشّهادة بشكل ملموس للإيمان المسيحيّ في المحبّة وفي احترام عميق للديانات الأخرى. إنّ اللقاء مع المهاجرين واللاجئين من طوائف وديانات أخرى هو أرض خصبة لتطوير حوار شفّاف ومُغنِي مسكونيّ وما بين الأديان.
أناشد جميع الرجال والنساء في العالم لكي يسيروا معًا نحو ”نحن” أكثر شموليّة، لكي نعيد تكوين العائلة البشريّة، ونبني معًا مستقبلنا القائم على العدالة والسلام، ونضمن عدم استبعاد أيّ شخص. إنّ مستقبل مجتمعاتنا هو مستقبل ”ألوان”، غنيٌّ بالتنوّع والعلاقات بين الثقافات. ولهذا يجب أن نتعلّم اليوم أن نعيش معًا في تناغم وسلام. هناك صورة عزيزةٌ على قلبي وهي صورة يوم ”معموديّة” الكنيسة في عيد العنصرة، صورة الشعوب في القدس التي تصغي إلى إعلان الخلاص بعد حلول الرّوح القدس: ”فَرثِيِّين وميدِيِّين وعَيْلامِيِّين وسُكَّانِ الجزَيرَةِ بَينَ النَّهرَين واليَهوديَّةِ وقَبَّدوقِية وبُنطُس وآسِيَة وفَريجِيَة وبَمفيلِيَة ومِصرَ ونَواحي ليِبيَةَ المُتاخِمَةِ لِقِيرِين، ورومانيِّينَ نُزَلاءَ ههُنا مِن يَهودٍ ودُخَلاء وكَريتِيِّينَ وعَرَب؟ فإِنَّنا نَسمَعُهم يُحَدِّثونَ بِعَجائِبِ اللهِ بِلُغاتِنا”. إنّه مثال أورشليم الجديدة، حيث يجتمع الشعوب، في سلام ووفاق، ويحتفلون بصلاح الله وعظائم الخليقة. ولكن لبلوغ هذا المثال، علينا جميعًا أن نلتزم لكي نهدم الجدران التي تفصلنا ونبني الجسور التي تعزّز ثقافة الّلقاء، مدركين الروابط الحميمة الموجود بيننا. من هذا المنظور، تقدّم لنا الهجرات المعاصرة الفرصة للتغلّب على مخاوفنا لكي نسمح لتنوّع عطايا كلِّ فرد بأن يغنينا. عندها، إذا أردنا، يمكننا أن نحوِّل الحدود إلى أماكن لقاء مميّزة، حيث يمكن أن تزدهر معجزة ”نحن” أكثر شموليّة.
أطلبُ من جميع الرجال والنساء في العالم، أن يوظِّفوا بشكل جيّد العطايا التي أوكلها الرب لنا لكي نحافظ على خليقته ونجعلها أجمل. ”ذَهَبَ رَجُلٌ شَريفُ النَّسَبِ إِلى بَلَدٍ بَعيد، لِيَحصُلَ على المُلْكِ ثُمَّ يَعود. فدَعا عَشرَةَ خُدَّامٍ له، وأَعْطاهم عَشرَةَ أَمْناء وقالَ لهم: تاجِروا بها إِلى أَن أَعود”. إنَّ الرّبّ سوف يحاسبنا على أعمالنا! ولكن لكي تُضمَنَ الرّعاية الصّحيحة لبيتنا المشترك، يجب أن نصنع من أنفسنا ”نحن” أكثر شموليّة، وأكثر مشاركة في المسؤوليّة، في القناعة بأنّ كلّ خير نصنعه في العالم، نصنعه لصالح الأجيال الحاليّة والمستقبليّة. إنّه التزام شخصيّ وجماعيّ، يأخذ على عاتقه مسؤوليّة جميع الإخوة والأخوات الذين ما زالوا يتألمون، فيما نسعى لتحقيق تنمية أكثر استدامة وتوازنًا وإدماجًا. إنّه التزام لا يميّز بين محليين وغرباء، بين مقيمين وضيوف، لأنّه كنز مشترك، ولا يجوز استبعاد أحد من رعايته وفوائده. لقد تنبأ النّبي يوئيل عن المستقبل المسيحانيّ كزمن أحلام ورؤى يُلهمها الرّوح: ”وسيَكونُ بَعدَ هذه أَنِّي أُفيضُ روحي على كُلِّ بَشَر فيَتَنَبَّأَ بنوكم وبَناتُكم ويَحلُمُ شُيوخُكم أَحْلامًا ويَرى شُّبانُكم رُؤًى”. نحن مدعوّون لأن نحلم معًا. لا يجب أن نخاف من أن نحلم وأن نقوم بذلك معًا، كبشريّة واحدة، ورفاق في الرّحلة عينها، وكأبناء وبنات لهذه الأرض التي هي بيتنا المشترك، وجميعنا أخوات وإخوة.
أيّها الآب القدّوس والحبيب، لقد علّمنا ابنك يسوع أنّ فرحًا عظيمًا يكون في السماء عندما نجد شخصًا كان ضائعًا، وعندما نجمع من كان مُستبعدًا، مرفوضًا أو مُهمَّشًا، في الـ ”نحن” الذي يصبح هكذا أكثر شموليّة. نتضرّع إليك أن تمنح جميع تلاميذ يسوع وجميع الأشخاص ذوي الإرادة الصالحة النعمة لكي يتمموا مشيئتك في العالم. بارك كلّ مبادرة قبول ومساعدة تضع من جديد كل من كان في المنفى في ”نحن” الجماعة وفي الكنيسة، لكي تصبح أرضنا، تمامًا كما خلقتها، البيت المشترك لجميع الإخوة والأخوات.. آمين.